الربيع العربي وإصلاحات الإمبراطور ميجي

مربط الخيل

مدريد – الخميس 16 فبراير 2012
بقلم محمد بشير علي كردي
خاص لوكالة بان اورينت نيوز

أينما التقى عرب غربة الوطن في هذه الأيَّام السيِّئة، يدور حديثهم عمَّا سمِّي "الربيع العربي" الذي عمل على تغيير النظام في كلٍّ من تونس ومصر وليبيا واليمن، وقوبل في سورية بالعنف المؤلم من الجيش وعناصر الأمن والبلطجيَّة المعروفين باسم الشبيِّحة، يدعمهم في طغيانهم النافذون في حزب البعث العربي الاشتراكي الذي لم يبق من برنامجه إلاَّ الاسم والشعار والعلم.

في لقاء الأمس، وشاشة التلفاز تنقل صورًا تقشعِّر لها الأبدان عن الضحايا من الأطفال والأمَّهات والشيوخ الذين تلقُّوا من سلطات الحاكم وأعوانه أبشع التعذيب وأكثره وحشيَّة. كانت هناك مماثلة بين ما تشهده سورية اليوم وما من ثورة على الاحتلال الفرنسي، وأنَّ أجداد بعض الحضور واجهوا رصاص الفرنسيِّين بصدورهم العارية، وبالمتاح لهم من سلاح صدئ لقدمه، وأنَّ المظاهرات الصاخبة كانت تجوب الشوارع في كافَّة المدن والقرى مرددة: "هي لنا، هي لنا، باريس مربط خيلنا." متأثِّرين بقصص الحكواتي عن حروب الجاهليَّة كداحس والغبراء التي كان للحصان العربي فيها ما للطائرات الأمريكيَّة اليوم من دور في حسم المعارك وتحقيق النصر.

كاد الحضور يجمعون على أنَّ كلَّ ما حصل ويحصل مؤامرة صهيونيَّة مائة من المائة لتحول دون إقامة الدولة الفلسطينيَّة وفكِّ أسر بيت المقدس واستعادة الجولان، غير أن أحد الجالسين، كان قد أمضى عشرات السنين في غربة الوطن وتأثَّر بما للغرب من حسابات تعتمد على الحقائق والأرقام لا على القصص والخيال، ذَّكر الحضور بأنَّ مقاومة العدو وتحرير الأرض له متطلَّبات، أوردها الذكر الحكيم بقوله تعالى: وَأَعِدُّو لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُمْ مِّنْ قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ. وبالتالي فإنَّ مواجهة العدوِّ واسترجاع الحقِّ المُغتصب يتطلَّب التعقُّل وعدم الانفعال لتخطيط المراحل القادمة للكفاح، وفي مقدِّمتها العِلْمِ ليؤدِّي إلى بناء القوَّة الاقتصاديَّة والعسكريَّة القادرة على مقارعة العدو بمثل سلاحه وعلمه، أو بسلاح آخر يعيد له كرامته، ومن ثمَّ استعادة ما سُلِب منه ولو بعد حين.

استشهد صاحبنا باليابان، هذه الدولة التي سبق أن عاشت عزلة عن العالم الخارجي دامت 251 عامًا، انتهت عام 1854 بغزو البحريَّة الأمريكيَّة سواحلها المغلقة بوَّاباتها، وأُجبرت، بعد القصف بمدافع تحملها بارجات حربيَّة لم يسبق لليابانيِّين رؤيتها من قبل، على الرضوخ وفتح الأبواب أمام التجارة العالميَّة، وما يستوجب ذلك من تعديل القوانين والأنظمة، وأدَّى هذا التبديل إلى سقوط نظام الشوغن وقيام عهد الإمبراطور ميجي عام 1868 الذي بدأ بإصلاحات ثقافيَّة واقتصاديَّة واجتماعيَّة وعسكريَّة وبناء الكوادر البشريَّة المتعلِّمة، وتمَّ إرسال العديد من الشباب إلى الغرب ليتعرَّفوا إلى الآلة التي قلبت موازين القوى. فريق قصد ألمانيا لمعرفة المولِّدات الكهربائيَّة والتدرُّب على تصنيعها، وفريق إلى بريطانيا للتعرَّف إلى المركبات وصناعة السيَّارات، وفريق قصد مصر لدراسة حركة السكك الحديديَّة، وآخر إلى عاصمة السلطنة العثمانيَّة لدراسة علم الأرشيف وحفظ المستندات والمعلومات. عاد المبتعثون إلى وطنهم مسلَّحين بالعلم والمعرفة، ليصبحوا نواة الصناعة اليابانيَّة التي نمت وتضخَّمت، فجعلت من اليابان قوَّة اقتصاديَّة وإقليميَّة كبرى قاومت بعناد التوسُّع الغربي في الشرق الأقصى باحتلالها العديد من دول الجوار العاجزة عن حماية نفسها من خطر التوسُّع الاستعماري الغربي. وكانت الحروب التي ساعد الغرب على تأجيجها ضدَّ اليابان لتحجيمه وقهر قوَّته المتنامية. وانتهى الصراع بضرب الأمريكان أولى قنابلهم الذريَّة على السكَّان الآمنين في كل!ٍّ من هيروشيما وناغازاكي يومي 6 و 9 أغسطس/آب عام 1945 بعد أن دمَّروا بغاراتهم الجويَّة البنية التحتيَّة لكامل التراب الياباني.

وكما كانت للإمبراطور ميجي وقفة بطوليَّة بعد أن أُرغمت اليابان على فتح جزرها أمام التجارة العالميَّة لتحقِّق مكاسب للأمريكان والغربيِّين، كانت للإمبراطور هيرو هيتو وقفة مشرِّفة أخرى بمصارحته شعبه بخسارة الحرب، وبأنَّه ليس أمامهم إلاَّ البكاء على الماضي المجيد أو تقُّبل الهزيمة وإعادة بناء يابان جديد مزوَّد بما مكَّن الأمريكان من التوصُّل إلى ما هم عليه من قوَّة عظمى، فاختار الشعب إعادة البناء، وتقبَّلوا مناهج التعليم الغربيَّة، والتحقوا بكبرى جامعات العالم، ممَّا مكَّنهم في سنوات قليلة من بناء اقتصاد واعد ومنافس. بفضل ذلك، تغلَّب اليابانيُّون على الهزيمة العسكريَّة بالتفوُّق الصناعي الذي أوصلهم القمَّة التي يتربَّعون فوقها اليوم.

عاد محدِّثنا ليستشهد بنكبة حرب عام 1967 التي أضاعت كامل التراب الفلسطيني ليسقط تحت سلطة الإسرائيليين، إضافة إلى أراض عربيَّة مجاورة. وباعتراف الرئيس جمال عبد الناصر بالهزيمة وتحمُّله تبعاتها، وبفضل مساندة الشعب له، تمكَّن من بدء العمل لإعادة بناء قوَّاته المسلَّحة، ومشى الرئيس أنور السادات على خطاه إلى أن أكمل الاستعداد العسكري القادر على استعادة الكرامة التي هُدرت في حزيران/يونية 1967، فكانت حرب 1973 التي أعادت لمصر شواطئ قناة السويس الشرقيَّة، ومن بعد كامل التراب المصري، وأنَّه لولا العنجهيَّة والقبليَّة عند بعض حكَّام ذاك الزمان برفضهم مشاركة الرئيس السادات التفاوض على تحرير كامل الأراضي المحتلَّة لكان بيت المقدس اليوم مُتاحة لنا زيارته والتعبُّد في مساجده وكنائسه. انتهى الحديث بضرورة أن تكون هناك خطط عند القائمين على المطالبة بالتغيير لبناء الكوادر البشريَّة المؤهَّلة لمقارعة العدو بمثل ما عنده وزيادة. "وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ."

محمَّد بشير علي كردي أديب وسفير سابق للمملكة العربية السعودية في اليابان

بان اورينت نيوز


عزاء لليابان: فبراير. 01


سياسة