كلام في الحب وأشياءِ أُخر: الشاعر والكاتب فاروق جويدة يتحدث إلى الفاتح ميرغني

"الكنز المصري لم يخرج بعد... "
"رغم العتمة التي تملأ السماء احيانا وتحجب ضوء الشمس.. فإني مؤمن بمستقبل هذه الأمة"

القاهرة 2014 - خاص إلى وكالة بان اورينت نيوز

تنفرد بان اورينت نيوز بإجراء حوار حصري مع الشاعر والكاتب المصري فاروق جويدة رئيس تحرير القسم الثقافي في صحيفة الأهرام المصرية. وننشر المقابلة على ثلاث حلقات، وفيما يلي الحلقة الثانية.

الفاتح ميرغني: ما هو رأى فاروق جويدة في المناخ الادبي والإبداعي في العالم العربي بشكل عام؟

فاروق جويدة: انا اعتقد أن السياسة افسدتْ الإنسان العربي. ليس معنى ذلك انني ضد السياسة. ولكن السياسة بمفهومها في عالمنا العربي تحولت إلى تصفية حسابات وصفقات وإنقسامات، بصورة تتنافى تماما مع روح الإبداع والفكر. والفكر في الاصل دعوة انسانية، دعوة للتوحد وللتلاحم والجمال، دعوة للقيم. والإبداع هو ارقى ما خلق الله في الإنسان عن طريق إلهامه، لأنه يعطيه شيئاً من روحه، شيئاً من ذاته. هو خلقه لكي يحلق فحين يسقط في المستنقع، مستنقع الدم ومستنقع تصفية الحسابات ومستنقع المصالح ومستنقع الحروب والإحباط والياس ..إلخ، فإنه يخسر كثيرا. فالسياسة أفسدت الإبداع، لأنك انت لا بد ان تتحول إلى بوق سياسي لكي تتبوأ مكانة ابداعية وهذا خطأ. ينبغى ان تأخذ مكانك من قيمتك كمبدع . لنقيّمْ الابداع الاول. من حقك أن يكون لك موقفك السياسي. ومن حقك ان تعبر عنه ابداعاً. لكن ليس من حقك ان تُخَوًن الآخرين أو ترفضهم لأن هناك خلافا في الرأى. وأنا اعتقد ان السياسة جرَفت جوانب كثيرة من الفكر العربي وجرًفت جزء كبير جدا من الإبداع العربي، ودخلت إلى أسوأ المراحل، وهي التصفيات حتى وصلت إلى تصفيات معنوية. وهناك مبدعون كبار تعرضوا لمواقف شرسة لأنهم اتخذوا مواقف معينة. هذه الثلاثية: الحكام والسياسة والإبداع كان من الممكن ان تخلق تركيبة أو توليفة جميلة وفيها تناغم.

الفاتح ميرغني: مصر إلى اين؟ سؤال ظل يشغل حيزا من إهتمام المراقبين في ضوء التطورات الجارية. ما هي رؤيتك؟

فاروق جويدة: مصر مرت بتجربة انصهار لا بد ان يخرج منها شيء جديد. كل ما تراه الآن على الساحة ليس هو حقيقة المشهد، فالجديد قادم. وانا اعتقد أن حالة الإنصهار هذه كما تخرج من الارض اسوأ ما فيها، فإنها ايضا تخرج الكنوز والذهب. وانا اتصور أن الكنز المصري لم يخرج بعد... ما زلنا في مرحلة الشوائب.

الفاتح ميرغني: إذاً انت متفائل.

فاروق جويدة: انا متفائل. وعلى جانب آخر، انا اتصور بأن التحول سيكون تحولاً فكرياً. وهذا ما تحتاجه مصر. لأن مصر، في خلال عقود من الزمن، ممكن اقول انها ترهلت فكريا. وانا اتصور ان هناك صحوة لا بد ان تحدث. شئنا ام ابينا. وكما قلت لك الإعصار قادم. فالجديد لم يظهر بعد في مصر، وانا اتصور ان التحول الفكري سيكون اهم سماته.

الفاتح ميرغني: في المقال الذي نشرته صحيفة "التايمز" البريطانية بتاريخ 19 يناير 2014 قلتَ: أنه إذا كانت الديموقراطية هي حق الشعب فى اختيار من يحكمه، فهي أيضا التي تعطى الشعب نفس الحق في أن يعزله.

فاروق جويدة: الديموقراطية لا تبرر الفشل نمرة واحد على الاطلاق. انا لا اقبل اي ديموقراطية تمارس الفشل او تفشل في تحقيق مطالب شعب. وبالنسبة لتجربة الاخوان المسلمين في مصر، وانا أعترف بأنني تعاطفت معهم طوال تاريخهم لاسباب كثيرة، فقد اكتشفت حينما اقتربت منهم، انهم شيء غير ما عرفت. انا اختلفتُ مع السادات في كامب ديفيد، واختلفتُ مع نظام مبارك بسبب بيع القطاع العام. وتسببوا لي في أزمة قلبية بسبب مقال كتبته عن توريث القضاء جرى تأويله بأن فاروق جويدة كان يقصد توريث الحكم. ودخلتُ المستشفى بسبب ذلك، واختلفتُ مع الاخوان وعندي استعداد ان اختلف مع اي نظام لا يلبي تطلعات الشعب المصري.

الفاتح ميرغني: ما هي في تقديرك الاخطاء التي ادت إلى الإطاحة بالأخوان من قوة سياسية في المشهد السياسي المصري إلى "قوة منبوذة ومنفَرة" في ذات المشهد؟

فاروق جويدة: انا عندما اقيّم الاخوان لا بد وان اطرح سؤال: لماذا فشل الاخوان؟.. اولاً، لم يكن احد يتصور في يوم من الايام وصول الاخوان المسلمين، التيار الديني السياسي، إلى حكم مصر. أن يأخذوا مقاعد في مجلس الشعب..ماشي! أن يكون لهم حزب... ماشي! ولكن ان يجمعوا بين رئاسة الدولة والبرلمان ومجلس الشورى ومؤسسات الدولة كلها، وأن يكون رجلا من الاخوان المسلمين بمثابة القائد الأعلى للقوات المسلحة المصرية، اكبر جيش في المنطقة، والجيش رقم 14 في العالم، فهذا ما لم يكن يتصوره أحد: درة المنطقة وعقلها في قبضة الاخوان المسلمين. هذا كان امرا مستبعدا تماماً. ثانيا، كنت اتصور ان هذا مكسب لا ينبغي التفريط فيه او التضحية به ابدا. وقلتُ مرة للرئيس مرسي: "لن يحاسبك احد على ثوابتك الفكرية إطلاقا. ولكن الناس ستحاسبك على أنك رئيس لكل المصريين". واقترحتُ عليه في اول اجتماع: اعط ملف العلاقات الخارجية لعمرو موسى، وملف العمل والإنتاج وتوعية الشباب لحمدين صباحي، وملف التعاون الخارجي لمحمد البرادعي، وملف العلاقات ما بين الاحزاب والدين لابي الفتوح. إذا نجحوا، سيُنسب نجاحهم إليك، وإذا فشلوا سيتحملون النتيجة. وقدمتُ له هذا الاقتراح بحضور كل المستشارين. جيت مرة ثانية وقلت للمرشد: "الناس كان بتحبكم إنتو لازم تسالوا نفسكم عن حجم الكراهية ضدكم ليه؟.انتوا أتغريتوا وانعزلتوا وتعاليتوا، واعتبرتوا نفسكم شيء غير المصريين، حتى من النخبة التي كنتم جزءاً منها". أضف إلى ذلك افتقاد الخبرة. ومصر كانت اكبر من قدرتهم كتيار وكجماعة. وتصوروا انهم ممكن ياكلوا "الكيكة" كلها، واصابتهم حالة من التعالي والغرور على الشعب. وجاء وقت الاجتماع لمناقشة الاعلان الدستوري. فإذا بالرئيس مرسي يفاجئنا بقوله: "انا عندي اجتماع مع السفير الياباني"! فقلت له، "البلد بتغرق يا دكتور!". فما كان مني إلا أن جمعت اوراقي واستقلتُ على الهواء مباشرة في التلفزيون. وفي الحقيقة، الاخوان فشلوا للأسباب الآتية: أولا إرادة الهية سبقت كل شئ والله غالب على امره .. ثانياً، حالة تعالي وغرور على الجميع أصابت قياداتهم بعد الوصول الى السلطة. ثالثاً، ضعف الخبرات والتجارب فى إدارة شئون بلد كبير فى حجم مصر، ولذلك اقول لك، الناس كانت حتخرج حتخرج. والمصريون حيخرجوا في أي وقت قادم . ولا تصدق بأن الناس ممكن ترجع بيوتها تاني. المصريون خرجوا إلى الشوارع ولن يعودوا إلا إذا حصلوا على حقوقهم. وانا أكتشفت أن الاخوان شيء غير ما عرفت. تركيبة تانية خالص. وانا لم أكن إخواني.. انا راجل ليبرالي.

الفاتح ميرغني: هناك من يرى بأن الثورة المصرية قد تأثرت بالثورة التونسية من منطلق نظرية "أحجار الدومينو".

فاروق جويدة: أحب ان اقول لك حقيقة: انا افرًق بين ما حدث في مصر وما حدث في أي مكان آخر.. ما حدث في مصر ثورة حقيقية ولم تكن من توابع تونس. وحتى لو لم تقم الثورة في تونس، كانت سوف تقوم في مصر. والجيش المصري كان يعلم ذلك. قد تكون تونس سبقت الثورة المصرية بشهرين او ما شاكل ذلك. ولكن انا استبعد نظرية احجار الدومينو. والشعب المصري حينما خرج يوم 25 يناير واسقط مبارك يوم 11 فبراير كان خروجا تلقائياً وطنياً مصرياً. هناك اخطاء، ولكن كما قلت لك، البراكين تطلق الشوائب ثم تقذف الحمم، وتعيد ترتيب التضاريس ... وتخصب التربة. ونحن ما زلنا في مرحلة الشوائب.

الفاتح ميرغني: موضوع إستبعادك من عضوية المجلس الأعلى للثقافة في مصر رغم ترشيحك من قبل الوزير الأسبق فاروق حسني وعدد كبير من المثقفين، أثيرَ اكثر من مرة.

فاروق جويدة: علمتُ من الوزير "فاروق حسني" وضع اسمي على قائمة الترشيحات لعضوية المجلس الأعلى للثقافة. وشكرتُه على ذلك . ثم بعد ذلك "الإسم اتحذف" ووُضِعَ اسم آخر. وانا لا ادري لماذا وضعوه ولماذا حذفوه!. فأنا سبق وأن حصلتُ على جائزة الدولة التقديرية في عهد مبارك من اول تصويت ومن اول ترشيح ، وكنت اصغر من حصل عليها في تاريخ هذه الجائزة.

الفاتح ميرغني: هل صحيح أنه كان لديك خلافات مع احمد نظيف، رئيس الوزراء آنذاك؟

فاروق جويدة: هي كانت خلافات حول جامعة النيل التي أنشأها "احمد نظيف" لكي تكون منصبه القادم بعد أن يترك الوزارة. وخصصَ لها مبالغ من وزارة الاتصالات. وهي جامعة خاصة برجال الأعمال. وانا كنت اول من أماط اللثام عن هذه القضية على صفحات الاهرام، فاعتبرها مسألة شخصية رغم انه تبرأ واعتذر بعد ذلك وقال: "فاروق حسني، وزير الثقافة، لم يرسل لي قرار ترشيح "فاروق جويدة" ضمن المرشحين لعضوية المجلس الأعلى للثقافة".

الفاتح ميرغني: رفضتَ مرارا تولي منصب وزير الثقافة.

فاروق جويدة: ربنا اعطاني شيء اكبر من اي شيء. ولم يكن المنصب في يوم من الايام من طموحاتي، وعُرِض علي الاهرام في اكثر من وقت كرئيس تحرير ورئيس مجلس ادارة واعتذرت. وعُرِضت علي الوزارة خمس مرات، ورفضتُ في عهد جميع رؤساء وزارات مصر بعد الثورة: "احمد شفيق" و"عصام شرف" و"كمال الجنزوري" و"هشام قنديل"، والوزارة الاخيرة "ابراهيم محلب" والرئيس "سعد منصور" واعتذرت. رئيس الوزراء "عصام شرف" عَرَضَ علي وزارة الإعلام. ورئيس الوزراء "كمال الجنزوري" عرض علي ضم الإعلام والثقافة وبحيث أصبح وزيرا للإثنين واعتذرت. انا اعتقد ان دوري كشاعر وككاتب بنفس درجة وأهمية مركز وزيرالثقافة، هذا جانب. الجانب الثاني، أن قضية تولي منصب وزير الثقافة في مصر يحتاج للتفرغ وقضاء وقت كبير من أجل ممارسة مهامه. فهي ليست وزارة التموين، توفر شوية سلع للناس. الثقافة هي عقل مصر، عقل هذه الأمة. وانا اعلم مناطق القوة والضعف فيها. وإذا أصبحتُ في يوم من الايام وزيرا للثقافة، فلابد أن اترك الشعر كي اتفرغ لهذه المهمة، وقد يحدث ذلك يوما...

الفاتح ميرغني: ما هو جديد فاروق جويدة؟

فاروق جويدة: عندي ديوان جديد عن الثورة، "قصائدي في الثورة" كلها، وعندي كتاب "ايام مع الإخوان"، وعندي كتاب "مقالاتي في الاهرام". وهذه الكتب الثلاثة سوف ترى النور خلال العام الحالي.

الفاتح ميرغني: إن الذي يقرأ قصيدة "بالرغم منا قد نضيع" أو قصيدة، "زمن الذئاب"، وخاصة مقطع، "انا في المدينة يا ابي مثل السحاب... يوما تداعبني الحياة بسحرها.. يوما يمزقني العذاب".. يتبدى له كما لو ان فاروق جويدة يتضجر من المدينة. فهل ما زلت تحن إلى كفر الشيخ ومحافظة البحيرة؟

فاروق جويدة: بالتأكيد..

الفاتح ميرغني: ما هي رسالة الاستاذ فاروق جويدة لأحبابه ومريديه من القراء؟

فاروق جويدة: رغم العتمة التي تملأ السماء احيانا وتحجب ضوء الشمس.. فإني مؤمن بمستقبل هذه الأمة إلى ابعد مدى. وهناك فعلا ربيع قادم. قد تكون هناك بعض الشوائب التي تمنع، وقد تكون هناك بعض الظلال التي قد تحجب اشعة الشمس. لكن لا شك أن هناك ربيع قادم. هذه الأمة تستحق حياة أكثر كرامة وأكثر حرية وأكثر عدالة. وانا متفائل بالغد. بالنسبة لمصر’ أنا اعتقد بأن الشعب المصري خرج ولن يعود إلى القمقم مرة أخرى. أنا أنتظر.. أنتَظر لا اقول وحدة عربية، ولكن رؤى مستقبلية تحافظ على كيان هذه الأمة وتحفظ دورها وتجعلها شريكا حقيقيا في صنع المستقبل.

الصورة: عدسة الأهرام
فاروق جويدة: رئيس القسم الثقافي بصحيفة الأهرام
الفاتح ميرغني: رئيس تحرير مجلة وورلد لنكس سابقا في طوكيو

الحقوق الحصرية إلى وكالة بان اورينت نيوز



لقاء خاص